فصل: تفسير الآيات (4- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في لقي:
لَقِيَهُ- كرضيه- لِقَاء ولِقَاءَة ولِقِيًّا ولِقْيانة- بكسرهنَّ- ولُقِيَّا ولُقْيانًا ولُقْية ولُقًى- بضمِّهن- ولَقَاءَة مفتوحة: رآه، كتلقَّاه والتقاه.
والاسم التِلقاء- بالكسر- ولا نظير له في الكلام سوى التبيان.
ويكون اللقاء بحسّ البصر وبالبصيرة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} وقال تعالى: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا}.
وملاقاة الله عزَّ وجلَّ عبارة عن القيامة، وعن المصير إِليه، قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ} واللِقاءُ: الملاقاة.
وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي نسيتم القيامة والبعث والنشور.
وقوله: {يَوْمَ التَّلاَقِ} أي يوم القيامة.
قال بعض المفسِّرين: أَسماء يوم القيامة نحو من أَربعمائة اسم، وتخصصه بهذا الاسم لالتقاءِ مَن تقدّم ومَن تأَخَر، ولالتقاءِ أَهل الأَرض والسماءِ، وملاقاة كل أَحد عمله الذي قدَّمه.
ولقَّيت فلانا خيرًا: استقبلته به، قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}.
وتلقَّاه: استقبله، قال تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ}.
ولقَّاه الشيءَ: أَلقاه إِليه، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن}، أي يُلقى إِلَيْكَ وحيًا من الله تعالى، ومنه قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قولا ثَقِيلًا}.
والإِلقاء: طرحُ الشيء حيث تلقاه، ثم استعمل في كل طرحٍ، قال تعالى: {قال أَلْقِهَا يا مُوسَى}، وقال: {وَأَلْقِ عَصَاكَ}.
ويقال: أَلقيت إِليك مودّة وكلامًا وسلاما، قال تعالى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.
وتَلَقَّيته منه: تلقَّنته.
ونُهِىَ عن تلقِّى الرّكبان، أي استقبالهم.
وقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} عبارة عن الإِصغاءِ إِليه.
وقوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} تنبيه على مادهمهم من التعجّب والدهشة التي جعلتهم في حكم المضطرِّين غير المختارين. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 5):

قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قول إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك، وكانت عادته التربية بالماضين، كان موضع توقع ذلك فقال معبرًا بأداة التوقع: {قد كانت} أي وجدت وجودًا تامًا، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية {حسنة} يرغب فيها {في إبراهيم} أي في قول أبي الأنبياء {والذين معه} أي ممن كانوا قبله من الأنبياء، قال القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة {إذ} أي حين {قالوا} وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف {لقومهم} الكفرة، وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات.
ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعدًا لأن يبارزوهم، أكدوا قولهم فقالوا: {إنا} أي من غير وقفة ولا شك {برءاء} أي متبرئون تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم.
ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا: {ومما تعبدون} أي توجدون عبادته في وقت من الأوقات الماضية المفيد التعبير عنها بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائنًا من كان لا نخاف شيئًا من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه.
ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم: {من دون الله} أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم.
ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا: {كفرنا بكم} أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك.
ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر، عبر بما يفهم أن العداوة كانت موجودة ولكنها كانت مستورة، فقال دالًا على قوتها بتذكير الفعل: {وبدا} أي ظهر ظهورًا عظمًا، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال: {بيننا وبينكم} أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم {العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على الآخر ولا يكون ذلك إلا عندما يستخف الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق.
فالعداوة مما يمتد فيكون مالئة لظرفها، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلويحه على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز: الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير (في) دون ذكره يقتضي كون الظرف معيارًا له غير زائد عليه مثل صمت الشهر، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر، فإذا امتد الفعل الظرف ليكون معيارًا له فيصح حمل اليوم- في نحو صرت يوم كذا- على حقيقته، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب، وإذا لم يمتد الفعل- يعني مثل وقوع الطلاق- لم يمتد الظرف، لأن الممتد لا يكون معيارًا لغير الممتد فحينئذ لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازًا عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في الغرف ممتدًا، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} [الأنفال: 16] فإن التولي عن الزحف حرام ليلًا كان أو نهارًا ولأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي وهو جزء من اليوم، فيكون مطلق الآن جزءًا من اليوم، فتحقق العلاقة.
ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا: {والبغضاء} أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبدًا} ولما كان ذلك مرئيًا من صلاح الحال، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم: {حتى تؤمنوا} أي توقعوا الأمان من التكذيب من أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمان، حال كونكم مصدقين ومعترفين {بالله} أي الملك الذي له الكمال كله.
ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا: {وحده} أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه.
ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقوله إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيسًا لمن نزلت القصة بسببه واستعطافًا له وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه: {إلا قول إبراهيم} أي فلا تأسي لكم به {لأبيه} واعدًا له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعًا على قلبه، فلا صلاح له، يقال: إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له، فلما تبين له، أنه لا يؤمن تبرأ منه: {لأستغفرن} أي لأوجدن طلب الغفران من الله {لك} فإن هذا الاستغفار لكافر، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقًا غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع.
ولما وعده بالاستغفار ترغيبًا له، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار، فقال: {وما أملك لك} أي لكونك كافرًا {من الله} أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال، وأعرق في النفي بقوله: {من شيء} والاستثناء وقع على هذا القول بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نادى: «واصباحاه» حين أنزل الله سبحانه وتعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} كان يقول لكل من سماه: «لا أملك لك من الله شيئًا، حتى قال في آخر ذلك: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغن عنك من الله شيئًا».
ولما حثهم على التأسي بقول الخلص، وقدم منه المحافاة لأنها المقصودة، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضًا به بين أجزاء مقالهم بيانًا للاهتمام به للتنفير منه من قوله، أتم ما يؤيسي فيه فقال مبينًا أنهم ما أقدموا على مجافاتهم بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعًا تامًا يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم، لكنهم سألوا الحماية لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد ذلك أعداءهم ضلالًا {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم {عليك} أي لا على غيرك {توكلنا} أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم، وأنه لا يذل من والتي ولا يعز من عاديت وقد عادينا فيك قومًا عتاة أقوياء ونحن ضعفاء، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا.
ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسنًا أن يعد نفسه مقصرًا شاردًا عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره، وأن يعزم على الاجتهاد في العبادة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعًا: {وإليك} أي وحدك لا إلى غيرك {أنبنا} أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا.
ولما كان المعنى تعليلًا: فإنه منك المبدأ، عطف عليه قوله: {وإليك} أي وحدك {المصير} ولما أخبروا بإسلامهم له سبحانه وعللوه بما اقتضى الإحاطة فاقتضى مجموع ذلك الثناء الأتم، فلزم منه الطلب، صرحوا به فقالوا داعين بإسقاط الأداة للدلالة على غاية قربه سبحانه بما له من الإحاطة: {ربنا} أي أيها المربي لنا والمحسن إلينا {لا تجعلنا} بإضعافنا والتسليط علينا {فتنة} أي موضع اختبار {للذين كفروا} بأن يعذبونا بعذاب يميلنا عما نحن عليه ويميلهم عما وصلوا إليه بسبب إسلامنا من الزلازل بما يوجب ذلك لهم من اعتقاد لو أنك كنت راضيًا بديننا لكنا على الحق وكانوا هم على الباطل ما أمكنت منا، فيزيدهم ذلك طغيانًا ظنًا منهم أنهم على الحق وأنا على الباطل.
ولما كان رأس مال المسلم الأعظم الاعتراف بالتقصير وإن بلغ النهاية في المجاهدة فإن الإله في غاية العظمة والبعد في نهاية الضعف، فبلوغه ما يحق له سبحانه لا يمكن بوجه قالوا {واغفر لنا} أي استر ما عجزنا فيه وامح عينه وأثره.
ولما طلبوا منه الحياطة من جميع الجوانب، عللوه زيادة في التضرع والخضوع واستجاز المطلوب مكررين صفة الإحسان زيادة في الترقق والاستعطاف بقولهم: {ربنا} أي المحسن إلينا، وأكدوا إعلامًا بشدة رغبتهم بحسن الثناء عليه سبحانه واعترافًا بأنهم قد يفعلون ما فيه شيء من تقصير فيكون من مثل أفعال من لا يعرفه سبحانه فقالوا: {إنك أنت} أي وحدك لا غيرك {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله فوق ما طلب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}
اعلم أن الأسوة ما يؤتسى به مثل القدوة لما يقتدى به، يقال: هو أسوتك، أي أنت مثله وهو مثلك، وجمع الأسوة أسى، فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به، قال المفسرون أخبر الله تعالى أن إبراهيم وأصحابه تبرءوا من قومهم وعادوهم، وقالوا لهم: {إِنَاْ بُرآء مِنكُمْ}، وأمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأنسوا بهم وبقوله، قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهله في قوله تعالى: {إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ} وقوله تعالى: {إِلاَّ قول إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وهو مشرك وقال مجاهد: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفرون للمشركين، وقال مجاهد وقتادة: ائتسوا بأمر إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه، وقيل: تبرءوا من كفار قومكم فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم، لا في الاستغفار لأبيه، وقال ابن قتيبة: يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وقال ابن الأنباري: ليس الأمر على ما ذكره، بل المعنى قد كانت لكم أسوة في كل شيء فعله، إلا في قوله لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وقوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء} هذا من قول إبراهيم لأبيه يقول له: ما أغنى عنك شيئًا، ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، فوعده الاستغفار رجاء الإسلام، وقال ابن عباس: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} الآية، أي في جميع أمورنا {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} رجعنا بالتوبة عن المعصية إليك إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك، وفي الآية مباحث:
الأول: لقائل أن يقول: {حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} ما الفائدة في قوله: {وَحْدَهُ} والإيمان به وبغيره من اللوازم، كما قال تعالى: {كُلٌّ ءَامَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فنقول: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، من لوازم الإيمان بالله وحده، إذ المراد من قوله: {وَحْدَهُ} هو وحده في الألوهية، ولا نشك في أن الإيمان بألوهية غيره، لا يكون إيمانًا بالله، إذ هو الإشراك في الحقيقة، والمشرك لا يكون مؤمنًا.
الثاني: قوله تعالى: {إِلاَّ قول إبراهيم} استثناء من أي شيء هو، نقول: من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لما أنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به، ويتخذوه سنة يستنون بها.
الثالث: إن كان قوله: {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنى من القول الذي سبق وهو: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فما بال قوله: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء} وهو غير حقيق بالاستثناء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا} [الفتح: 11] نقول: أراد الله تعالى استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا استغفر لك، وما وسعي إلا الاستغفار.
الرابع: إذا قيل: بم اتصل قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} نقول: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة، ويجوز أن يكون المعنى هو الأمر بهذا القول تعليمًا للمؤمنين وتتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم تنبيهًا على الإنابة إلى حضرة الله تعالى، والاستعاذة به.
الخامس: إذا قيل: ما الفائدة في هذا الترتيب؟ فنقول: فيه من الفوائد مالا يحيط به إلا هو، والظاهر من تلك الجملة أن يقال: التوكل لأجل الإفادة، وإفادة التوكل مفتقرة إلى التقوى قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] والتقوى الإنابة، إذ التقوى الاحتراز عما لا ينبغي من الأمور، والإشارة إلى أن المرجع والمصير للخلائق حضرته المقدسة ليس إلا، فكأنه ذكر الشيء، وذكر عقيبه ما يكون من اللوازم لإفادة ذلك كما ينبغي، والقراءة في {بُرَاء} على أربعة أوجه: برآء كشركاء، وبراء كظراف، وبراء على إبدال الضم من الكسر كرخال، وبراء على الوصف بالمصدر والبراء والبراءة، مثل الطماء والطماءة.
قوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} من دعاء إبراهيم.
قال ابن عباس: لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك، وقيل: لا تبسط عليهم الرزق دوننا، فإن ذلك فتنة لهم، وقيل: قوله: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً}، أي عذابًا أي سببًا يعذب به الكفرة، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم.
وقوله تعالى: {واغفر لَنَا رَبَّنَا} الآية، من جملة ما مر، فكأنه قيل: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ}. اهـ.